المقالات

تأملات في رسالة «كانط» نحو سلام عالمي دائم

الحرب المؤلمة التي تشهدها منطقة البلقان، تشهد على هشاشة النظام العالمي للسلم، فهي كارثة إنسانية بكل المقاييس، مهما كانت أسباب الحرب ومسبباتها، فلا يمكن أن يقبل الضمير الإنساني بفعل القتل والاقصاء والتهميش والتهجير، فالحروب ناهيك عن آثارها المدمرة باستطاعتها أن توقظ أسوء ما فينا، نحن كائنات الإلغاء، فعندما يشتد السيل تطفح الأنا في أبشع تجلياتها، حيث يتضح أن القومية بثوبها الإقصائي لا تزال تتمدد، والعرقية تزحف باتزان خلف بساط الحقوق والحريات الأممية، كما أن العلمانية في صورتها الغربية لم تكن سوى ستار شفاف يخفي تعصب ديني من نوع آخر.
تقول إحدى بنات أفكاري في سن مراهقتها السياسية بأنه في الأزمات تظهر الحقيقة كاملة بدون مساحيق تجميل، فالحرب في البلقان عرت عن فظاعة الحرب نفسها وكرس المراسلون والمحللون في مختلف المحطات الفضائية الغربية وبعض السياسيين والمسؤولين تفوق العرق الأبيض، أصحاب العيون الزرقاء، والشعر الأشقر، الأناس المثقفون والمتحضرون، أصحاب السيارات، الذين يختلفون عن اللاجئين من الشرق الأوسط وافريقيا وبؤر النزاع خارج أوروبا وأمريكا الشمالية. الإنسانية بمفاهيمها ومبادئها التي لا تتجزأ وقواعدها أضحت شماعة رديئة لا تنير سوى محيطها المصغر، الصورة على الحدود الأوكرانية مع دول الجوار تفسر التعامل الانتقائي مع أصحاب البشرة غير البيضاء، بالرغم من أن الحرب شملت الجميع، واكتوى بنيرانها العموم. نظرية تفوق العرق النقي تطفو على السطح بسبب الازمة مما يفسر بأنها لطالما كانت مستوطنة في قناعات قائليها، نظريات «روسو» و»ديدرو» و»دوركهايم» و»راسل» تم نسفها من طرف أحفاد مبدعيها، الماجنا كارتا والإعلان العالمي لحقوق الانسان والمواطن لسنة ١٧٨٩، والاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة ١٩٤٨، المادة الأولى والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لعام ١٩٤٥، والعهدين الدوليين لسنة ١٩٦٦، تم ابادتهم بتصريحات وأفعال مؤلمة بحجم آلام الحرب نفسها، فالانسان قد يموت في الحرب وأتونها، لكن أشد أنواع الموت أن تقتل فيه الكرامة، تماما مثل ذلك الشخص الذي نجا من الموت لكنه لم يعد حيا.
يقول المفكر صادق النهيوم « مشكلة الحرب بالذات، أنها لا تترك ورائها أحدا غالبا أو أحد مغلوبا، بل تترك جثتا ميتة أو أصدقاء»، العالم يحتاج وبسرعة الى قواعد تنظيمية أخرى في العلاقات الدولية والإنسانية والقواعد الأخلاقية، ولعلها فرصة مناسبة لتأمل رسائل الفيلسوف «إيمانويل كانط» حول السلام الدولي، حيث مفهوم السلم ظهر بالمعنى الواضح من خلال مشروعه نحو السلم الدائم، الذي قدمه في كتابه بعنوان: «مشروع للسلم الدائم» سنة 1795. ونجد في هذا الكتاب الصغير مخاطبة كانط للأمم بضرورة إقامة سلم عالمي.
لقد صاغ كانط مشروعه هذا على هيئة المعاهدات الدبلوماسية ويتألف من الأقسام التالية:
أ- ست مواد تمهيدية تصوغ الشروط السلبية للسلم.
ب- مادتين نهائيتين تصوغ الشروط الايجابية العامة، الداخلية والخارجية الدولية، لفائدة السلم.
ج- ملحق أول: يبحث في كانط من الناحية الفيزيائية والمادية في الطبيعة بوصفها ضمان للسلم.
د- ملحق ثان: يدعو فيه إلى إعطاء الفلسفة الحق في تنوير الدولة فيما يتعلق بالامور السياسية. وهذا الملحق أضيف إلى الطبعة الثانية التي ظهرت سنة 1796.
ه- ملحق ثالث: يتناول فيه: الخلاف بين الاخلاق والسياسة ثم نقاط الاتفاق بين السياسة والاخلاق.
لقد تناول مفهوم السلم عدة فلاسفة قبل كانط إلا انه تميز عنهم في تناوله لهذا المفهوم، حيث انه لم يلجا إلى العبارات المثيرة للاشفاق على الناس من ويلات الحرب، كما فعل «كروسه» و»بن والب دي سان بيير»، بل كان كلامه دائما عقليا ورزينا.
وأيضا لم يتعجل تحقيق السلم العالمي، بل رأى أننا أمام مرحلتين: الاولى هي تنظيم الامم في هيئة دولية تتولى المحافظة على السلم – وهذا أمر ميسور التحقيق، وقد تحقق فعل للمرة الاولى في سنة 1919 بإنشاء عصبة الامم، والمرة الثانية في سنة 1945 بإنشاء هيئة الامم المتحدة التي لا تزال قائمة حتى اليوم. والمرحلة الثانية هي: السلم الدائم، وهو مثل أعلى يجب على الامم أن تجعلها دائما هدفا نهائيا لها: انه أمل، لان الحرب ليست ضرورة حتمية لا مفر منها.
يقول كانط: «إن الكائنات العاقلة تخضع جميعا للقانون الذي يقتضي ألا يعامل كل منهم نفسه وغيره من البشر كوسيلة أبدا، بل أن تكون معاملته لهم دائما وفي نفس الوقت كغايات في ذاتها».
فجذر العلاقة بين الاخلاق والسلام مغروس في طبيعة الاخلاق ذاتها وجوهرها الحقيقي. والشكل المنطقي للتعبير عن هذه العلاقة ليس مجرد اشتمال أو تطابق، ولكن تعبير عن تلازم ضروري بين الاخلاق والسلام.
بما أن الاخلاق داخلية فالعلاقة بينها وبين العقل علقة قوية. والعقل ينتهي وجوده
إذا أنكر إلزام الواجب الاخلاقي، لان في التزام الانسان بالواجب الاخلاقي يحقق إنسانيته ويصبح كائنا إنسانيا، وان خالف الواجب صار حيوانا متوحشا وانتهى العقل إلى العدم.
فحياة العقل ووجوده هي الحياة بمقتضى الواجب، هي الحياة الانسانية: فعل الخير والعدل والاحسان والحق والمحبة والتسامح والسلم كواجب غير مشروط بمصلحة أو منفعة أو ميل أو هوى أو رغبة ذاتية. ففي وجود الاخلاق يكون السلم وفي غيابها يمتنع السلم، فتحقيق السلم في تلازم ضروري مع تحقيق الواجب الخلقي. لهذا يؤكد كانط أن السلام مشكلة أخلاقية، لان تحقيق السلام الابدي لم يعد خيرا ماديا فحسب بل شرطا صادرا عن تقديس الواجب الاخلاقي.
لذلك فان السلم الذي تقيمه الاخلاق بين البشر ليس سلما سياسيا ولا قانونيا، ولا هو سلم الاستسلام من خاضع مهزوم لمنتصر منصور. ولا هو سلم الضرورة والمصالح الضاغطة على العناق المطأطئة للرؤوس، ولا هو سلم اليأس والضعف من جبروت القوة والطغيان، ولا هو سلم الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
إنه السلم الذي تقيمه الاخلاق النابع من الارادة الخيرة الملتزمة بالواجب الخلقي، فبالاخلاق تكون حتمية السلم، وفي غيابها تولد حتمية الحرب.
في رسالة كانط نحو السلام الدائم هو لا يحلم، يعلم جيدا أن الطريق الى سلام عالمي دائم هو طريق شاق ووعر وطويل، لذلك وضع تشريعات لو اتفق عليها عالميا، لأصبحت كفيلة بأن تجعل أمد الحرب لا يطول، ومجالها لا يتسع، وخطوط الرجعة فيها لا تحترق.
إن السلم يجب أن يرتبط بالبعد الانساني والأخلاقي وبروح المواطنة، من أجل تكريس القيم
الديمقراطية السامية، على اعتبار هذه الاخيرة قيمة عالمية كونية لا يمكن لها أن تقوم إلا في ظل السلم العالمي، وغير ذلك لن يكون سوى فترات من الهدنات تتخللها حروب مدمرة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى