رسم لنا علماء الحديث وبخاصة علماء الجرح والتعديل، طريق التثبت في قبول الروايات على أتم وجه وأكمل صورة، بالنظر إلى أن علم الجرح والتعديل من أدق علوم الحديث وأدقها مسلكاً، وفي الحديث عن إمام هذا العلم، يبين لنا المجهود الكبير المبذول في الوصول إلى حقيقة الأمر في ما كان عليه رواة الحديث بخصوص توفر شروط الرواية فيهم من عدمها، وعلماء الجرح والتعديل اتسموا بالعدل والإنصاف مع من وافقهم، ومع من خالفهم، فلم يدعوا مجالاً للأهواء وحظوظ النفس أن يكون حاضراً في أحكامهم على رواة الحديث، ويعد محور شخصيتنا الإمام يحيى بن معين من مؤسسي هذا العلم الجليل، لامتيازاته الكبيرة عن باقي علماء الحديث في تفرعاته من علوم وفنون أصيلة إن كان فقهاً أو مصطلحاً وغير ذلك.
قبل الخوض في غمار شخصيتنا، لا بد من بعض التوضيحات التي تتعلق بهذا العلم الجليل، الذي يؤكد مرة جديدة، أن الدين الإسلامي، هو الدين الذي شمل مفاصل الحياة كلها، بما فيها الأمانة العلمية في النقل، عن القدماء بضوابط شرعية تحولت إلى أدوات أكاديمية تفنّن بها كل مختص قديماً وحديثاً، ومما لا شك فيه أن جرح الرواة وتعديلهم يخضع لميزان دقيق لم يوجد له نظير، خاصة لجهة وضع الضوابط الدقيقة في قبول الجرح والتعديل الصادرين في حق رواة الحديث، إن كان في مسألة الصفات المعتبرة في الجارح أو المعدّل، وفي الصفات المعتبرة في الجرح والتعديل، وأيضاً الضوابط التي تتعلق بمنهجية الترجيح بين الجرح والتعديل عند التعارض، بالتالي هذه العملية لا يقوم بها إلا الجهابذة من العلماء وممن اتصفوا بالإيمان العميق والتجرد التام عن الهوى وحظوظ النفس، يقول الإمام النووي في هذا الصدد: «ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك، والتثبت فيه والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح أو نقص من لم يظهر نقصه، فإن مفسدة الجرح عظيمة، فإنها غيبة مؤبدة مبطلة لأحاديثه مسقطة لسنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورادّة لحكم من أحكام الدين»، بالتالي، للجرح والتعديل رتبة رفيعة لا ينالها إلا كل من اتصف بالعدالة، أول لبناتها أن يكون عدلاً ومن بعد ذلك تأتي بقية الشروط، وممن تنطبق عليهم تلك الشروط، محور موضوعنا اليوم، إمام الجرح والتعديل، يحيى بن معين.
من الخصائص التي تميزّ بها الفكر الإسلامي وشريعته وعلومه، موضوع الإسناد، وهو جزء من المنهج الذي اتبعه المحدّثون في النقل عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودعامة أساسية في علوم الحديث، ثم أصبح سمة مهمّة في شتى العلوم الإسلامية، يكاد لا يخلو فن من فنون العلم من الاعتناء به؛ لأنه طريق معرفة مصدر المعلومة، ومدى مصداقيتها.