من المفارقات اللامتناهية التي عاشها ويعيشها العالم، والتي عبر عنها بطريقة لا تخلو من البؤس والطرافة، «ادواردو غاليانو» في العديد من الكتابات التي تزاوج ما بين بساطة الطرح وعسر المضمون، أن البلدان الصناعية الغنية لا تستطيع الحفاظ على نسبة نموها المرتفعة دون تصدير الدمار الى أراضي الآخرين، فالدول الغنية مثلا، لا تصنع الالمنيوم، فهذه المادة تصنع في بلدان العالم الثالث حيث الطاقة اخفض ثمنا والبيئة في صمتها تتألم، كما تزرع الخزامى والزهور لمصلحة الدول المتقدمة، بينما تحتفظ تلك الدول بأجورها المنخفضة وبأراضيها المحددة وبمياهها المسممة، وتصنع لفائدة شركات متعددة الجنسية مبيدات مسجلة على اللائحة السوداء في المنظمة العالمية للصحة. الماركات العالمية التي تزين واجهات المحلات الراقية تصنع في دول جنوب شرق اسيا حيث أجور المئات يساوي ثمن حقيبة يد واحدة، الشعر المركب والمستعار يأتي من أفقر الاحياء والقرى في آسيا، ليزين مشاهير السجادات الحمراء من نيويورك الى موناكو.
لا جديد، فالمنطق الاقتصادي لا يزال يقتات على البؤس والحرمان.
ومن المفارقات كذلك أن نابليون بونابرت الأكثر فرنسية بين الفرنسيين، لم يكن فرنسيا، وجوزيف ستالين الأكثر روسية من بين الروس، لم يكن روسيا، وهتلر الأكثر ألمانية بين الألمانيين ولد في النمسا. «مارغريتا سارافاني» المرأة التي أحبها موسوليني، المعادي للسامية، بجنون، كانت يهودية. «خوسي كارلوس مارياتيغري» الأكثر ماركسية بين الماركسيين، كان مسيحيا متحمسا. «تشي غيفارا» الذي غير خارطة أمريكا اللاتينية، وألهم الملايين في العالم، رفضه الجيش الارجنتيني لأنه غير ملائم بشكل كامل للحياة العسكرية، ومن بين يدي الفنان «إليخادينهو» الأكثر دمامة بين البرازيليين، ولدت أعظم ملكات الجمال البرازيليات. السود الامريكيون الشماليون، أكثر البشر تعرضاً للاضطهاد، أبدعوا الجاز، أكثر أنواع الموسيقى تحررا. «دون كيشوت» أكثر الفرسان ترحلاً في رائعة «سرفانتيس» تم تخيله داخل السجن.
وأخيرا ففي عام ١٨٨٩، احتفلت باريس بمرور مئة سنة على الثورة الفرنسية، بإقامة معرض دولي كبير. أرسلت الأرجنتين إلى المعرض تشكيلة متنوعة من منتجات البلاد. وأرسلت ضمن ما أرسلته، أسرة من هنود منطقة «تييرا ديل فويغو». كانوا أحد عشر هندياً من هنود «الأونا»، نماذج نادرة، من جنس آخذ بالانقراض، فآخر هنود «الأونا» كانوا يبادون، في تلك السنوات، برصاص بنادق «الونشستر».
من الأحد عشر هندياً الذين أرسلوا، مات اثنان خلال الرحلة. ومن تبقوا على قيد الحياة عرضوا في قفص حديدي. «أكلة لحوم بشر أمريكيون جنوبيون «، هذا ما كانت تنبه إليه اللوحة الإعلانية على القفص. لم يقدموا إليهم أي طعام خلال الأيام الأولى. فكان الهنود يزمجرون من الجوع عندئذ، بدؤوا يرمون إليهم بعض قطع اللحم النيء. كان لحماً بقرياً، ولكن أحداً لم يشأ حرمان نفسه من رؤية ذلك المشهد الرهيب. فالجمهور الذي دفع قيمة تذكرة الدخول، كان يتزاحم حول القفص، حيث كان أكلة اللحم البشري المتوحشون يتنازعون الطعام بمخالبهم.
هكذا جرى الاحتفال بمرور المئة سنة الأولى على إعلان حقوق الإنسان.