المقالات

فضيلة الأسواق


الإنسان وفق المنطق العملي المعاصر هو كائن غارق في دوامة العلاقات الاجتماعية، ومحروم من أي إرادة ومن أي استقلالية، إذ يمكن أن يتأتَّى استعباد الإنسان من جرَّاء الضغط الذي يمارسه المنتجون على المستهلكين، فالإنسان الذي سيختار تلقائيا أن يعيش حياةً من التوازن والاعتدال، سيعجز عن ذلك بسبب القصف الإشهاري الذي يتعرض له، فهو يستهلك وأحيانا بشكل مفرط، ويقترض ويُعيد الاقتراض. ليس من الضروري أن نمضي إلى غاية «الكينزية»، وهي تقف على النقيض من الليبرالية، لكي نشرح أن الاستهلاك هو واجب ومنفعة اجتماعية لأن الإنفاق، وإن كان مفرطا، يخلق فرص العمل ويُنتج الثروات. وهو مغزى حكاية النحلة التي نسجها «ماندوفيل».
فهل الإنسان مجرد لعبة في أيدي سحرة الدعاية ووسائل الإعلام؟ هذا ما ادَّعاه «جون كينيث غالبريث» قائلا: «الشركات هي من تفرض المنتجات على المستهلكين، وليس العكس».
أما في كتاب» حرية الاختيار» المشهور الذي ألَّفه «ميلتون فريدمان»، يقول بما معناه أنه إذا كان المجتمع الاستهلاكي واقتصاد السوق مَحَطَّ هذا الكم الكبير من الهجمات، فلأن الكثير من العقول الجيدة تمنح لنفسها الحق في التحكم بما هو صائب وما هو على خطأ، وتمييز الاستهلاكات الضرورية من تلك التي ليست كذلك، فهناك ما هو ضروري وما هو كَمالي.
ولكن من ذا الذي يقدر على تحديد ما هو كَمالي؟ ما يعتبره البعض كماليا، يحسِبُه الآخرون ضروريا، وبحسب الظروف، فإن ما أَعُدُّه اليوم ضروريا سوف أراه كماليا في المستقبل، هل أنا مثلا بحاجة لنظارات شمسية في الأيام الممطرة؟
في الواقع، إن المنتجين يسمحون لأنفسهم بالتحكم في اختيارات المستهلكين وهم بالتالي معادون لحرية الاختيار، إنهم لا يقبلون بذاتية القرارات الفردية، فالفضيلة الأخلاقية للسوق هي جعل الناس مسؤولين عن قراراتهم، فهم لا يستطيعون أن يستهلكوا إلا بناءً على ما يقدمونه هم أنفسهم من خدمات، فنحن جميعا مستهلكون ومنتجون في آنٍ واحد.
و من جهة أخرى يدافع الاقتصادي المرموق ” فيرنون سميث” الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، عن أخلاق الرأسمالية العالمية وكيف ساهمت في تطور الثروة البشرية وتحسين أحوال البشر، حيث يرتبط التطور الاقتصادي، كما يقول «سميث»، بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة التي ترعاها سيادة القانون وحقوق الملكية الخاصة، حيث أن العولمة في ظل ذلك ليست بالأمر المُستحدث، فهي كلمة حديثة تصف حركة إنسانية قديمة، كلمة تعبر عن سعي الجنس البشري لتحسين ظروفه عن طريق التبادل واتساع دائرته على مستوى العالم، وكما قال عالم الاقتصاد الكبير «فريديريك باستيا» في عبارته الحكيمة: إذا لم تعبر السلع الحدود فسيعبُرها الجنود، وهي مقولة تحتمل النقيضين.
هناك ترابط بلا شك بين السوق ومنظومة القيم والأخلاق يتأثر ويؤّثر كل منهما في الآخر، وبقدر ما تكون السوق مرتكزة على قيم أخلاقية وتأخذ بعين الاعتبار ما هو أبعد من مجرد الكسب السريع للمال بأي ثمن بقدر ما تنجح، وبقدر ما تتفلّت من هذه القيم في المقابل لتغذي النزعات الفردية بشكل مطلق بقدر ما تتجاوز كل الخطوط الحمر وتفشل. وهناك يأتي دور الأنظمة والقوانين ليس فقط من أجل ضمان حسن سير الإطار العام للسوق الحرة وإنما لضمان الجانب الأخلاقي، وبما يحقق التوازن بين المثالية والانتهازية وبين العام والخاص.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى