المقالات

زاد المسافر

كنت قد قررت بيني وبين نفسي، ذات صباح أن الأمور لم تعد تطاق، خرجت من أعماق سريري، فتحت نافذة حجرتي، كان الأمر محيراً، ان كل ما في الشارع يبدو على ما يرام، أغلقت نافذة حجرتي الصغيرة، أحضرت مرآة عتيقة، مشروخة من المنتصف تماما، وضعتها قبالتي وجلست، ورحت أناقش كل الأمور مع الجالس أمامي، كان بين أصابع كل منا قلم رصاص مفرطح السن، وتحت يده ورقة، ارتفع صوت كل منا، بحثنا، درسنا، ودونا بعض النقاط الهامة خلال الحديث الدائر، وقبل النهاية، اتخذنا القرارات، وتعاهدنا على تنفيذ كل شيء بدقة، قمت، وقفت، ابتسمنا، حييت الجالس أمامي، بادلني التحية، وكان هو الآخر قد قام، وابتسم لي، استأذنته في العودة إلى الفراش، وفعل مثلما فعلت، ورحنا نثرثر، وعندما تعبنا من الثرثرة، قلنا نحن الاثنين، في صوت واحد: النهار متاهة، لا أول له ولا آخر، والليل بحر الخلاص.
هذا المشهد هو صورة بليغة لكل من فقد اللغة والحوار واستعصى عليه البوح، لكل من صام عن الكلام في عز أزمنة الحديث، لمن أخفى مشاعره حتى أذبلها الوقت والسنين، لمن ظل منتظرا رغم مأساة «الموعد الثاني»، لكل ناج من الفقد والنسيان، لكل خيال يمشي على هيئة انسان.
يقول طلال مداح في رائعته صعب السؤال: «آه يا طول المسافة بين إحساسي وصوتي»، التعبير في غالب الأحيان يخوننا، وحتى إذا اكتملت العبارة طالت المسافة، والبوح يأبى في أفضل صوره إلا أن يتخفى خلف السكوت، بالرغم من أن للسكوت كلمات بليغة، تنزاح تراتيلها الساهية في الأخفاف والعيون، للسكوت لغة لا يفهم معانيها ولا يدرك مضامينها سوى العارف بلغة الحواس، وتعابير الاهتمام. لكن حتى وإن صيغت الكلمات المعبرة، الدالة، فهي تقف خجولة في منتصف الطريق، فتجلياتنا هوس في مقل الحياة، والحياة قائدة تأبى الانقياد.
المؤلم في الصمت هو اغتيال الكلام، ترانيم صماء تناجي الواقع، فضفاضات عمياء مأسورة في المسافة، فعندما تغيم السماء فالروح تمطر، هذا ما قاله الظل في حضرة القصيد المعتم.
وأنت أيها الساكن هناك ما بين ضلع المسافة، وانشودة المطر، لم ولن تكن وحدك أسيرها، سلوى الفؤاد، وانتعاش الانبعاث، فوضى الهواجس، وتمرد الحواس، لم ولن تكن وحدك سجينها، تحييك ترانيم الوقت، وتنسج المسافة وتغلق مخارج الكلم عن البوح، يقال الصوم المتقطع منفعة للجسم والصحة، بينما الصوم عن البوح هو تمام العلة، فإن لم يكن هناك بوح فلن تكن هناك قصة، لن يكتب التاريخ، ولن نعرف تفاصيل تراجيديا عنتر وعبلة، أو لنقل، ما كتب كان ذلك اليسر القليل، بينما ما سكن القلوب والأفئدة وتعذر البوح به ما بين عسر الكلام وطول المسافة هو الزاد الكثير، هناك تاريخ آخر لم يقل ولم يدون، تاريخ ترسمه العيون فقط. فيالها من لغة عسيرة، غامضة ومبهجة، وياله من بوح وزاد وسفر، سجنته المسافة وأعدمه «الموعد الثاني».

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى