المقالات

تساوي الممكنات
هذا المقال هو اجتزاء مقتبس من كتابي «بوح الذات المعتلة»، والذي يندرج ضمن أدب التأمل الذاتي.
«…ها هو الليل صديقنا الوفي قد حل، مرحباً.. مرحباً.. مرحباً.. النجوم تتراءى أمام أعيننا وكأنها تستعطف الليل أن يسدِل عليها أستار الغيوم، أجل فلا شك أنها تشعر بالخذلان أمام هذا البدر المشرق الذي لا يفتأ يزهو عليها بأضوائه الألاقة الزاهية.
ولكن ألا يجوز أن يكون هذا البدر هو الآخر مخذولاً ينشر العزاء في رحاب الليل، وأن تكون تلك النجوم دموعه الحارة الذليلة؟ أجل فلا شك أنه يستشعر الهوان إلى جانب الشمس تلك التي لا تزال تميسُ بأنوارِها كلَّما أقبل النهار. أيها الليل إنني أنا الآخر هنا! ألا يوجد لديك مكان يسعني لنتقاسم الحسرة؟!
من الموجع يا صديقي أن نضطر إلى أن نلزم أنفسنا بعدم الاندهاش، وأن تتساوى عندنا ردود الأفعال، وأن نصبح مجردين من الذهول والانبهار، أن يصبح كل ما يقع حولنا من المتوقع، وأن يصير من كانوا سبباً في دهشتنا، مفرغين من أسباب انبهارنا، ومحمَّلِين بأسباب خيباتنا، والخيبة هي انبلاج اللا متوقع من مهازل الثقة.
كنت أفكر أن أولى سمات شيب القلب المبكر هو فقدانك شبه الكامل للقدرة على الاندهاش، يصير كل شيء مقبولَ الحدوث، تصبح إجابتك عن أي سؤال عن إمكانية حدوث شيء ما، مهما بدا غريباً، جدَّ عادية، يذبُلُ سقف الطموح، وتتجمد الأماني والتطلعات، تصبح متحجراً في ردود الأفعال، وكأن «غورغون» حطَّم مجاذيف الجميلة «عشتار»، تتخبط في دوامة الممكن والمحال، وترفض تصديق ما أنت عليه الآن. أعلم جيداً عزيزي أن أسوأ ما في إحساس العجز المبكِّر أن تصبح صيداً سهلاً للملل، والملل هو جمود الأفق وتكرار الملهاة العقيمة للحياة، فتصير ملولاً أكثر من المعتاد، ميالاً للوحدة، للتعايش مع كل ما هو قادر على منحك بعض الدهشة، بعض الشغف، دموعاً حقيقية ربما، أو شهقة إعجاب، أو ضحكة رنانة من القلب.
لكنك تكسب مع شيب القلب عِدَّة أشياء مهمة، كتجنب التجمعات والعلاقات الاجتماعية وغيرها، فمؤشرات الخطر في روحك تعمل بسرعة، لتجنيبك المزيد من الجراح، فلم يعد في القلب مكان لسهم جديد، فلكثرة الجراح واعتياد الألم مميزات أهمها اكتسابك القدرة على حماية نفسك بأكبر قدر ممكن، فتعرف مَنْ هُمْ قُسَاةُ القلب فعلاً، حتى وإن تحايلوا على الجميع، وترى الجمال داخل من يغلِّفُون أنفسهم بإطار من القسوة واللا مبالاة المفتعلة، خوفاً من جرح جديد.
صديقي، في غمرة بشاعة هذا العالم بجميع صوره المرهقة والمأساوية وحروبه المختلفة بين البشرية، في غمرة قتال الإنسان للإنسان، وتلاعب الإنسان بمشاعر أخيه الإنسان، وكذب الإنسان على الإنسان، وخيانة الإنسان للإنسان، والإبداع في كسر الإنسان لروح الإنسان، في ظل هذه المهازل البشرية المضحكة المبكية، وتخلي البشر عن إنسانيتهم وشعورهم وضمائرهم لتحقيق مصالحهم التي خُيِّل إليهم من جبروتهم أنها لن تتحقق إلا على حساب الآخرين، انقسمت الأرواح وباتت تحارب بعضها البعض، وبات الصراع يتسرُّب من صراع بين الحضارات كما تنبأ المخذول فوكوياما إلى صراع ما بين المشاعر النقية ونقيضها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى