لا يختلف اثنان في أن العودة إلى الماضي والتنقل عبر الأبعاد الزمانية، خاصية جوهريه وصفة نوعية تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وعودة الإنسان إلى الماضي ليست من قبيل الهروب من الواقع. بل هي عودة مقصودة في محاولة جادة لفهم الذات، ذلك أن الإنسان الذي يعود إلى ماضيه يحدد نقطة الانطلاق ومن ثم يدرك مبتغاه. فالتاريخ هو مرآة الإنسان، فإذا كان الإنسان المدون للتاريخ مثقفا جدا، فإنتاجه التاريخي سيكون مرآة لثقافته وقدراته العقلية.
إن الإنسان هو موضوع التاريخ، وهو صانع التاريخ أيضا، وهو المدون له، فالإنسان من خلال التاريخ يتعرف على علاقته بالآخرين الذين سبقوه. فهو لا يستغني عنهم لأنهم الأصل لفرعه، لذلك تصبح الحادثة التاريخية حادثة اجتماعية.
لكن علماء التاريخ لا يريدون العودة إلى الماضي بطريقة فوضوية، بل يريدون لهذه العودة أن تكون مؤسسة تأسيسا منهجيا وقانونيا، لأن الدراسات العقلانية تؤكد أن القانون هو هدف المنهج وحصيلته، فالقانون يعبر عن الدقة واليقين وهذا ما سعى إليه بعض المفكرين، كإبن خلدون وفوكو وغيرهما.
ولقد رأى هيجل أن التاريخ مبني على التناقض الذي يؤدي إلى الحركة والتطور، واستقراء التاريخ يبين أن البشرية تتقدم بفعل ورد فعل بين النزعات المتضادة، فعصور السلطة تتبعها عصور فوضى، ومن الاثنين تنشأ مرحلة سامية من الحرية، وخير مثال على تطور الحياة البشرية، ذلك التطور الذي عرفه الإنسان اثر الصراع الذي قام بين الليبرالية والشيوعية، لذلك كانت فلسفة التاريخ عند هيجل لا تهتم بالوقائع الجزئية، لأن هذا يجعل الأحداث التاريخية مبهمة وغير مفهومة وغير معقولة ولا منطق لها، وعليه لابد من منطق يوصلنا إلى الحق، وهو منطق العقل الجدلي، يقول هيجل: « إن الحق يضرب بجذوره العميقة في طبيعة العقل نفسه».
وما دامت كل فكرة في التاريخ وفي العقل الإنساني تنمو وتتطور لأنها تتضمن تناقضا بين طرفين متعارضين، فهي من جهة تحمل في طياتها مبدأ يؤكدها ويثبتها، وفي ذات الوقت تحمل مبدأ نقيضها، وهذا التعارض بين الفكرة ونقيضها يثير في الموضوع أزمة باطنية تجعل الموضوع يحدد ذاته ويتحقق من ماهيته أكثر، وبهذا يكون هيجل قد تنبه إلى أن النفي والتناقض هما المقولتان المحركتان للفكر والتاريخ.
إن فهم حقيقة الكون وفقا لتفسيرات هيجل تقتضي مراعاة هذه الحركة الديالكتيكية، فالحركة الجدلية لا تشتمل أو تفسر التاريخ فحسب بل تفسر حركة العالم بأسره، لأن العلم الطبيعي الذي نشهده والتطور الاجتماعي والاقتصادي بل التطور الإنساني ككل يعود إلى العقل والإرادة.
إن الدعوة إلى تحكيم العقل في التاريخ ضرورة من ضرورات الكتابة بعيدا عن الأهواء والتعصب بما يضمن تحرير التاريخ من التفسير الأسطوري اللاعقلاني، فالتاريخ بمفهومه العقلاني يعتبر دعوة لإبراز الجوانب المضيئة للإنسان والمجتمع، لقد حاول هيجل أن يضع التاريخ في دائرة القانون بتأسيسه لدولة القانون، أو ما يعرف بدولة الحق ليقضي بذلك على فكرة المصادفة في الحادثة التاريخية، لكن النيتشاويون ثاروا ضد هذا الطرح ليثبتوا فكرة نيتشه التي ترفض عقلنة التاريخ ويدافعوا عن فلسفة القوة بعيدا عن كيان العقل، لأن التاريخ أكثر مأساوية وأقل اطمننانا. باختصار فهناك العقل وهناك اللاعقل، هناك فلاسفة ركزوا على العوامل العقلانية وأعطوها ثقتهم وهناك فلاسفة ركزوا على العوامل اللاعقلية ودورها في تذبذب الحركة التاريخية وتغيير مسارها.
وما يؤكد تدخل المصادفة في الحركة التاريخية ما حدث في الحرب العالمية الثانية، فمن كان يعتقد أن هتلر سيتلقى هزيمة شنعاء أمام الاتحاد السوفياتي لتدخل العامل البيئي، الذي لم يكن في الحسبان. فخضوع الحركة التاريخية للعوامل المناخية أحيانا، يجعل العقل والمنهج عاجزين عن الإحاطة بكل أسباب الظاهرة ومن ثمة العجز عن توقع نتيجة حتمية.
لقد صرح ميشيل فوكو في أكثر من موضع أن العقل في الدراسات الإنسانية خاضع لملابسات الأنانية والمصالح والشهوات، بحيث يصبح المنهج في التاريخ مجرد نظريات يتبناها المفكرون و يعجز عن ممارستها المؤرخون، وهذا ما نستشفه في اعتراف المؤرخ الألماني «ليبولد رانكي» بأن التاريخ في واقع الحال لا يصل إلى قوانين رمزية ثابتة، وإنما يصل إلى قوانين سببية متغيرة في الزمان والمكان.
فالحقيقة التاريخية لا تلبث على حال، حيث أن المؤرخ كلما وصل إلى نقطة في التاريخ إعتقد أنها النهاية، يتفاجئ في كثير من الأحيان وبمرور فترات زمنية بظهور وثائق جديدة بعد طول إختفاء لأسباب إيديولوجية أو سياسية أو غيرها فيعيد المؤرخ النظر في منهجه وكذا الحقائق التي سبق وأن توصل إليها وربما يضطر إلى إلغائها.
وهو مايفسر صعوبة تأسيس منهج علمي رصين في التاريخ يجمع ما بين التحليل المنهجي العقلي والتنبؤات الناتجة عن المصادفة، فلكل واحد منهجه المختلف كليا عن الأخر، لكن المؤكد أن ما يدرس حاليا في العالم هو تاريخ المنتصر الخارج عن مختلف المدارس المنهجية.