المقالات

مواقع التواصل الاجتماعي والمأزق الوجودي

في دراسة متأصلة للدكتور بدر الدين مصطفى حول «الاغتراب المعرفي-الوجودي في ظل مواقع التواصل الاجتماعي»، يحاول الكاتب أن يوضح لنا كيف تحولت ذوات البشر إلى ذوات افتراضية؟ وكيف أن هذا التحول قد حدث بالفعل حتى لو بشكل جزئي، مع الدخول في عصر جديد من الافتراضي، يشكله الويب 3 والميتافيرس، حتى أصبح التساؤل الأكثر مشروعية: ما تأثير ذلك على حياتنا؟ وهل سيحولها إلى الأفضل أم الأسوأ؟
فعلا لقد حوّل الواقع الافتراضي، وتحديدًا المتعلق منه بمنصات التواصل الاجتماعي، من كونه محاولة لمحاكاة واقع، إلى نموذج يحاول الواقع محاكاته. فقد أصبح الواقع صورة شاحبة منه. الافتراضي هو المعيار الذي يقاس بواسطته صدق الواقع أو كذبه. أصبح الافتراضي سابقًا للواقع وممهدًا له. وقد باتت العلاقة التقليدية بين الخيال والواقع اليوم مهددة بالتدمير، بحيث باتت التفرقة بين الواقع والخيال في عالم الصور المحاكية والمحاكاة الزائفة مشوشة وملتبسة إلى حدٍّ بعيد.
ما الواقعي؟ وما الخيالي؟ ما الحقيقي؟ وما الزائف؟ لقد وضعنا تضخم الافتراضي في حياتنا بمأزق معرفي يتعلق بالإجابة عن هذه التساؤلات.
تسمح منصات وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدمين بإنشاء نسخ مثالية من أنفسهم. ثم يرى هؤلاء هذه الذات المثالية باعتبارها إمكانات محققة، لكن لا يستطيعون الوصول إليها، وربما يكون الأمر الأكثر ضررًا بالصحة العقلية هو الانتشار المتزايد لبرامج تحرير الصور واستخدام المرشحات التي تبدل مظهر الفرد. هذا الانتشار من شأنه أن يخلق تجربة اجتماعية ومظهرًا جسديًا يعملان بمثابة تمثيل لإمكانات غير موجودة، وغالبًا ما تكون غير قابلة للتحقيق، فيعيش الفرد متخفيا خلف مظهر مصطنع، فقط لأنه يرضي الآخرين.
بالإضافة لذلك نحن في الغالب نقوم بنشر الصور «الأفضل» فقط على منصات التواصل، مما يؤدي إلى إنشاء شريط مختزل يسلط الضوء على التجربة الإيجابية فقط، وهذه مسألة بالغة الخطورة لأنها لا تعكس حقيقة التجربة في عمومها بل تبني حكمًا خاطئًا بناءً على مجرد لقطات مجتزئة من مجرى الحياة.
كما تحتوي منصات الوسائط الاجتماعية على ثروة من البيانات حول أفراد آخرين يمكننا مقارنة أنفسنا بهم. من خلال مقارنة أنفسنا بهذه الإمكانات غير القابلة للتحقيق، من المحتمل أن نشعر بمشاعر شديدة من الاغتراب.
لقد رسخت وسائل التواصل الاجتماعي شكلًا جديدًا من أشكال الحصول على الموافقة الاجتماعية من خلال حجم التفاعلات مع ما ينشره المرء عليها. هذا الارتباط الشرطي والوجودي الذي يحدث بين حجم التفاعلات والإحساس بالقبول الاجتماعي له مخاطره الكبيرة على الذات.
فنحن بالأول والأخير نتاج ما نتمثله عن العالم، نتصرف ونتواجد فيه من خلال مصفوفة من المفاهيم تشكل وجهات نظرنا تجاهه وتحدد الطرق التي بها نكون. لا أحد يستطيع أن ينكر أن جانبًا كبيرًا من تلقي المعرفة والمعلومات في وقتنا الراهن يحدث من خلال منصات التواصل الرقمي ومن الواقع الافتراضي بشكل عام. ذلك من شأنه أن يطرح إشكالًا خاصًا بكم المعلومات والمعارف الصحيحة والخاطئة التي يتعرض لها الإنسان يوميًا وما يؤثر به ذلك، عبر التراكم، على طريقة تمثله للعالم.
في مسرحية «جون بول سارتر» لا مخرج، تدرك الشخصيات الثلاث أن عذابهم هو حبسهم مع بعضهم البعض للأبد. يؤمن سارتر بأن الأشخاص لديهم حرية جوهرية، فلديهم القدرة على فعل ما يرغبون وأن يكونوا أي شيء يريدون. لكن هذا النضال المستمر ليكون الشخص على طبيعته، ولا يخضع لتوقعات الاخرين، هي عملية بائسة مجردة من الإنسانية. ولهذا السبب، «كان الجحيم هو الآخرين». وصور سارتر ذلك في مسرحيته «لا مخرج»، حيث يجد الأشخاص الثلاثة أنفسهم محبوسين في غرفة في الجحيم، ينتظرون وصول عقابهم. تكشف المسرحية ما فعله كل واحد منهم ليستحق الجحيم. أحدهم أساء معاملة زوجته، والآخر أغوى زوجة صديقه، أما الأخرى فقد قامت بقتل ابنتها. لكنهم يدركون ببطء أن عقابهم هو البقاء في غرفة مغلقة مع بعضهم البعض للأبد. وهذا العذاب بسبب «نظرة» كل طرف للآخرين. «غارسين» على سبيل المثال، الذي لم يقاتل بالحرب، يرى نفسه من دعاة السلام، لكن «اينيز» تراه مجرد جبان. ولكن لأنهم محبوسون مع بعض للأبد، يحتاج غارسين بشدة إلى تغيير هذه النظرة؛ فيتعهد إلى الأبد بإقناعها بخلاف ذلك. وبالطبع فإن المعنى الضمني هو أن الحال التي تمر بها هذا الأرواح الثلاثة المسكينة في الجحيم، هي أساسًا الحال نفسها التي يمر بها الجميع، في العالم الحقيقي: ذلك أن الناس محاطون بالآخرين، وهؤلاء الآخرون «ينظرون» إليهم، بينما يحاولون كسب رضاهم.
ان التمثل في مواقع التواصل الاجتماعي يشبه الضحك المسجل في مسلسلات (ست كوم) القصيرة أو النائحات اللواتي يؤجرن في الجنازات، فهم يضحكون ويبكون بالنيابة عنا، بالتالي فإن الحساب الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي هي نسخة نريدها لأنفسنا، لكنها بالضرورة ليست نحن.
الجدير بالذكر أنه بينما يتمادى المستخدمون في التواصل الاجتماعي، ثمة طرف ثالث تكون مهمته الرئيسية حصد الكثير من المال جراء تنمية هذا التواصل، وهذه هي مهمة النيوليبرالية الجديدة، في استغلال الاقتصاد المعرفي لمراكمة الثروة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى