في عصر التسليع المعمم، حيث كل شيء بات يقاس بمردوده المادي ونفعه وما يدره من مكاسب وأرباح، لم يعد للقيم المتعالية والمتسامية على الربح والنفع من قيمة. فالسلعة أصبحت قيمة القيم، وأصبح العالم منزوعا رمزيا مع حلول الرأسمالية الشاملة، حيث وجد الفرد نفسه في عالم مجرد، بمثابة كابوس، سرنمة بلا نهاية، عالم المجتمع الذي تحكمه السلعة ويديره السوق، الذي لا يجد ملاذه سوى في التشبث بالهويات اللغوية والوطنية والعائلية والإقليمية القادمة من عمق الأزمة. إنه عالم الانطواء الدفاعي، والارتياب من الاختلاف، ما ولد مفارقات عجيبة، وازدواجية في المعايير، وعزز أسلوب الكيل بمكيالين.
من ذلك أن حرق القرآن الكريم هو حرية تعبير، بينما حرق علم المثلية هو عنصرية وكراهية واقصاء، وأن استفزاز مشاعر المسلمين بذلك الفعل المشين هو حرية رأي وقيمة ديموقراطية عليا، بينما انكار الهولوكست هو جريمة، وأن استقبال اللاجئين الأوكران هو قيمة إنسانية، بينما استقبال اللاجئين الافارقة والاسيويين هو تهديد للأمن، وأن التظاهر أمام السفارات في الدول الغربية حرية تعبير بينما التظاهر ضدها هو إرهاب واعتداء، وبأن القيم الغربية يجب أن تكون كونية، بينما الإقليمية الأخرى يجب أن تعدل وتصحح أو تترك.
من المفارقات كذلك أن العالم المتبجح بالديموقراطية والأصم في وجه الحروب والمآسي والأوبئة قد ثار واشتد جنونه فقط عندما توشح ميسي بالبشت العربي في نهائي كأس العالم. الواضح أن كل ما هو ليس غربي يثير غصة في البطن وحرقة في القلب، لا تفسير مقبولا ومقنعا لذلك سوى الاصابة بالشيزوفرينيا، وتكيس وهمي ومفرط للأنا، وربما وأنا لست متأكدا من ذلك، الغيرة من نجاح وتفوق الآخر.
الرؤية الفوقية لم تعد مقبولة في العلاقات الدولية، العالم الذي تحكمه الاتفاقيات والقوانين والانظمة لا يمكن أن تسيره المزاجيات والمصالح المفضوحة، كما أنه لا يمكن تطبيق النماذج الغربية على الثقافات الأخرى، فالخصوصية الفكرية والثقافية هي أم القيم، وهي من تجعل من الحوار ممكنا وغنيا، وغير ذلك لا يعدو أن يكون محاولة يائسة لتأسيس أوليغارشية أممية غير قابلة للتصديق والتطبيق.
إن حالة الحروب التي تبدو البشرية وكأنها منتشية بها، وافرازات الفيروس التاجي وطفراته المتعددة التي لاتزال تهدد العالم، قد خلق أول الأمر حدوداً وسدوداً في عالم الجغرافيا، وربما تالياً في العقول والقلوب، وولد رؤى أنانية مجتمعية، الأمر الذي قاد العالم عبر انعزالية جديدة، حتى لو كانت مقنّعة، مرة تحت ستار الازمات، ومرة باسم الحقوق والحريات والقيم الغربية.
فما نحتاج إليه اليوم وبإلحاح هو نسق تضامني وتعاون عالمي هدفه الرئيس تعزيز الأمن والسلم الدوليين، انطلاقاً من رؤى عقلانية، تحترم خصوصيات الدول والشعوب وقيمها ومكانتها وتاريخها، وإلا فالهمجية التي تكاد تختبئ وراء أقنعة إنسانية، قادمة لا محالة، قد تظهر اليوم في صورة حروب الحدود، وربما غداً في شكل الصراع على الغذاء والمياه.
والسؤال الموجه للغرب والذي يستلزم تفكيرا معمقا: لماذا تنحاز بعض شعوب العالم الثالث للقوى المنافسة في مواجهة الغرب؟
الجواب هنا هو علة السؤال.