شذرات ومذرات عنزة ولو طارت
حكي أمداً عن رجلين خرجا للصيد فأبصرا جرماً أسود فتفارسا فيه أيهما أحق بالصواب، فقال الأول: لعله غراب، وقال الآخر: بل عنزة، فلما قربا منه استهل طائراً فزها الأول بالنصر على صاحبه فأجابه الآخر: عنزة ولو طارت.
هذه الحكاية وعلى ما فيها من الطرفة إلا أن المتأمل يرى من روشنه مرآة واقعنا المعاش، حيث استطبنا فكرة «العناد» وعدم الرضوخ للحق،فتجد مقياس القبول والاقناع مغلفاً ومحتكراً بالأهازيج الرنانة «القبيلة –المذهب- الحزب» وسُمنا عبرها مصلحة الوطن والمواطنين.
كل هذه المفردات الأيديولوجية ترينا حجم المأساة التي نكابدها، ولعل أبرز مفهوم تلاشى من العقد المنظوم مبدأ»قبول الحق» والذي نستقي عبره من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حيث كان يكثر من دعائه»اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه»، فالحق جوهر وكيان له عيان خاص غير متجسد في شخص أو حزب أو منظمة ،وإنما مزدان بالصدور ويدور رحاه مع نواميس السطور،وهذا لب الفساد الذي نعيشه في الوطن والوكن.
خلال اطلاعي على محاضر المجلس التأسيسي-آه على تلك الأيام- والمشعب أيديولوجياً بأعضائه ،استحضرت عدة مواقف تدل على سمو صدور أولئك في قبول الحق والانصهار مع أقرانه، ولنضرب مثلاً بالحصانة البرلمانية والتي استغرق النقاش حولها أمد الجلسة في مشروعيتها للأعضاء المنتخبين، واشتد وطيس النزاع ما بين الدكتور أحمد الخطيب والخبير القانوني محس عبدالحافظ حيث وفق الخبير ببيان النظرة القانونية حولها ،وأن الصورة المتبناة بشأن مشروعيتها للأعضاء ليست بالأطر الدستورية المتعارفة دولياً فما كان من الدكتور الخطيب إلاأن أحجم من عنفوانه وسار نحو الرأي الذي أدلاه الشيخ سعد العبدالله حينها، هذا الموقف يعكس مدى حرص الأعضاء ولو كانوا أصحاب رأي ومبدأ إلا أنهم بذات الوقت أصحاب مرونة وليونة في قبول الحق.
رحم الله هؤلاء الرجال الذين جعلوا خدمة البلد ورخاء شعبه أسمى المطالبات وأزكى الغايات.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم….. «أكمل قارئي العزيز البيت».