في أحداث فيروس كورونا المستجد وما تبعها من تداعيات، التي كان من بينها تعليق الرحلات الجوية بين الدول ما أصاب حركة الطيران بالشلل التام الأمر الذي أدى إلى مكوثي عالقاً خارج الكويت لأكثر من ثمانية أشهر ،وخلال هذه الفترة الطويلة التي قضيتها بعيداً عن وطني الحبيب دارت هناك في غربتي العديد من الأحداث المثيرة، فقد كنت مقيماً في إحدى القرى شمال ولاية تكساس الأمريكية ،ومن المعروف عن أهل هذه القرية أنهم متعصبون لأبعد الحدود وبطريقة لا توصف ، وهم يتسمون بعادات وتقاليد صعبة لا تطاق ولا تحتمل، لدرجة أن الشخص الذي يتعامل معهم يحتاج إلى كثير من الصبر والتحمل،ويمتلك أهل هذه القرية مزارع واسعة، وهم أهل صيد وقنص، وقد تعرفت في تلك الفترة بشخصين يحملان نفس الاسم «منصور» ولا أفهم ماسبب إعجابهم بهذا الاسم ؟ولماذا يطلقونه على أبنائهم ؟
منصور الأول مسيحي متغطرس يملك كنيسة ويسكن بالقرب منها وهو معجب بنفسه و عنجهي لايعجبه العجب ولايؤمن بالكتب السماوية ،الناس في نظره لا قيمة لهم ،فدائماً نظرته للجميع دونية ،ولمنصور الأول صديق يبعد عن قريته ٣٠ كيلو يحمل نفس الاسم، ومن خلال علاقتي بمنصور الأول تعرفت على منصور الثاني، فقد كان كثير التردد عليه، والجميل في الأمر أنهما صديقان منذ طفولتهما وعندما كنت أذهب للقائهما والاجتماع بهما في مزارعهما أجد منصور الثاني يسير دوماً على مبدأ خالف تعرف، فعندما يدور حديث بيننا يريد المخالفة في الرأي فقط حتى لو أنك كنت توافقه الرأي ،فهو مغرم دوماً بأن يخالفك الرأي، وقد كان لهما صديق كثير التردد عليهما ،تاجر عقار ويمتلك حانات خمور، كل حديثه عن النساء الجميلات ،هذه شقراء وهذه صاحبة بشرة سمراء وهذه فاتنة وهذه رومانسية فهو صاحب صولات وجولات فيما يتعلق بالنساء ؛ لذلك فهو لايفارق حاناته إلا لزيارة صديقه منصور الأول في كنيسته «اعتقاداً منه أن في زيارته للكنيسة تكفيراً لذنوبه التي اقترفها.
أما صاحب الكنيسة منصور فهو سكير مثله ومغرم بالخيول العربية ،وكلما التقيت بصاحب الحانة يطرح علي نفس السؤال الذي يكرره كل مرة:لماذا لاتتزوج من النساء اللاتي يعملن في حانتي ؟
أما منصور الثاني فهو ليس عن صديقه ببعيد ،فأحياناً تنتابه لحظات من جنون الأنفة والعزة والفخر بالتاريخ الذي تحظى به عائلته والنظرة الدونية للآخرين فهو يشعر دوماً بجنون العظمة والغرور، وفي إحدى المرات قررت ان أدعوهما للعشاء في منزلي الذي أسكن فيه في قرية يعد أهلها من أهل التاريخ والأصالة ،فكنت أحب هذه القرية وكان المنزل قديماً يسمى القلعة، وعند وصولهما لمنزلي أو لقلعتي المتواضعة أحسست بشعور غريب، فقد كان جلوسهما مجاملة وحديثهما يفيض بالأنفة والعزة والفخر بقريتهما فسألتهما عن تفسير ما ألاحظه وأشعر به، فما كان منهما إلا أن قالا :منزلك هذا لايسكنه إلا الجن، فهو مخيف جدا فالتزمت الصمت احتراما لوجودهما في منزلي الذي تعمدا الإساءة إليه ، وفضلت الصمت لأنني لم أتعود على قلة الذوق خاصةً مع ضيوفي ثم بدآ يتحدثان عن تاريخ قريتهما كأن الله لم يخلق سواها، فأدركت على الفور فساد طبعهما وضآلة عقليهما، فآثرت الصمت وعدم الرد ؛ لأنهما لا يستحقان عناء الرد، وقمت بتقديم واجب الضيافة بوجه بشوش، ولسان حالي يقول متى «تفارقون» منزلي فقد سئمت وجودكما ومللت من حديثكما ؟، و«هذرتكم تدبل الكبد».
متى تتخلين عن هذه النعرة الكذابة والكبر والتعالي، أخذا واجب الضيافة وتناولا طعام العشاء، ثم انصرفا ،بعدها قررت أن أختلي بنفسي بعيداً عنهما، ولقد استفدت كثيراً من تلك الجائحة فقد تعلمت منها الصبر على المنصورين وصاحبهما التاجر وضبط النفس والترفع عن جنونهم والبعد عن الحمق والسفه ومقابلة الإساءة بالإحسان.
كما تعلمت من تواجدي معهما الهدوء والتحكم في انفعالاتي والسيطرة على النفس والاعتزاز بقريتي التي أسكن فيها وأفخر بتاريخها المشرف دون الإساءة إلى الآخرين، وقد تعلمت من هذه الأزمة أن في كل محنة منحة وفي كل حدث دروساً مستفادة، فقد تعلمنا من أزمة كورونا الكثير من الدروس التي كان من الصعب علينا أن نعيها بعيداً عنها، فقد أدركنا أهمية نعمة الصحة والحرية والحركة دون قيود أو شروط، أدركنا أننا غارقون في الكثير من النعم التي تستوجب منا الشكر وتستلزم الطاعة، عرفنا في غربتنا قيمة الوطن كانت تجربة قاسية عانى منها الجميع ولكنها مرت بعون الله على خير تاركةً في أنفسنا العديد من الدروس والعبر .