لم تكن الحياة الواقعية والافتراضية فيما قبل متباعدة أبداً، فإذا كان الوجود يترك مساحة للحيلة، فإن العالم الرقمي هو أرض خصبة لجميع التخيلات، يمكن لمستخدمي الانترنت ابتكار حياة مختلفة لأنفسهم، وإخفاء هويتهم حسب الرغبة، ومن ذلك، تخيل أنفسهم في أفضل صورة ممكنة والدخول الى عالم الكمال الجمالي الموعود بالفلترة والتنقيح وغيرها من الحيل ثلاثية الأبعاد، والنتيجة ماذا؟ أنه لا يوجد شيء مشترك بين الأنا الحقيقي والافتراضي، يصبحان غريبين عن بعضهما البعض، وهو أمر لا يخلو من عواقب سلبية على الصحة العقلية، مع الهيمنة الراسخة لتطورات الذكاء الاصطناعي والاستخدام المنهجي لها في التطبيقات الاجتماعية، وبالتالي لن تستغرق آثار الارتداد السلبية لهذه الانجرافات وقتا طويلا لتظهر، وذلك وفق تسلسل هرمي على ثلاث مستويات: فقدان الثقة بالنفس، أزمه قبول المظهر ثم إساءة إستخدام الجراحة التجميلية.
1- إفساد الثقة بالنفس:
مواقع التواصل الاجتماعي، عالم مليء بالأوهام، كل مستخدم يحاول التباهي بما لا يملكه، يذكرني ذلك بما ذهب إليه عالم الاجتماع «إرفينج جوفمان» في وقت مبكر من خلال مبدأ «المسرحية»، بأن المجتمع مكان للتمثيل، مما يسمح لنا بالقول بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي مرحلة أخرى للأداء، حيث الجميع يرتدي القناع الذي يناسبهم بشكل أفضل، من أجل تقديم الدور الأكثر إقناعاً، وهكذا ينفصل الإنسان عن هويته من أجل القيام بدور آخر والحفاظ على واجهة اجتماعية متقمصة.
تنشط على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مسمياتها مشاركة التجارب والحياة الخاصة للمستخدمين وإبراز الحياة المثالية، حيث تحتكر الابتسامات والتجارب الفريدة جميع المنشورات، تصبح الحياة الرقمية لعبة مظاهر، وجميع الاستراتيجيات فيها مسموحة من أجل إكساب الشعبية وزياده المتابعين، والدليل على ذلك قضيه «غابي حنا» عام 2019، والتي عرضت عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الصور في أماكن متعددة في العالم تم تعديلها رقمياً، تمكنت غابي من خلال الصور من خداع مجتمعها بأكمله، مما يثبت أن الشبكات الاجتماعية ليست ضمانا للحقيقة.
إن البحث عن حياة مثالية، والذي يؤدي أحيانا إلى الخداع، يمكن أن يفصل البشر عن الحياة الواقعية من خلال تشويش علاقتهم «بالممكن»، فإذا كان هذا الشخص لديه مثل هذا المنزل، وآخر لديه مثل تلك المقتنيات، وأخرى لديها مثل ذلك القوام المثالي، فلماذا لا أنا؟ من خلال طمس الحدود ما بين الواقعية والتلاعب، يراهن مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي نواياهم على أشياء وهمية، فمن خلال دراسة أجرتها شركة «Edelman» للاستشارات عام 2021، وشملت «506» من الفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 10 و17 عاما، فإن 71% منهن يعدلن أو يخفين جزءا من أجسادهن قبل نشر الصور على الشبكات، وأن 48% منهم سيكونون أكثر عرضة للانهيار المنهجي للثقة بالنفس.
2 – أزمة قبول المظهر:
يقوم غالبية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي بالانشغال بشكل مفرط بالتفاصيل المادية للجسد، مما يؤدي الى الاستخدام الجنوني للفلاتر الرقمية، رموش أطول، فك أعرض، ابتسامة ناصعة، أنف أنحف، بشرة صافية، تعمل الفلاتر على تشويش صورة الوجه والجسم، مما يولد وجوهاً ومظهراً يختلف كليا عن نسخهم الأصلية، وإذا واجه المرء نفسه كثيراً بهذه الصور المثالية، فإن العودة الى الواقع تكون أكثر عنفاً.
عدم الرضا على صورة الشخص الواقعية يجعله بدون وعي يخلق ذات زائفة موازية، وهي شخصية غطاء، يتم انشاؤها لتلبية متطلبات الاندماج الاجتماعي، مثل التمويه، لأن الهوية البديلة تستجيب لمتطلبات المجتمع الخارجية، هذا التفكك والازدواجية تخلق ما يسمى «بقذائف الهوية»، فالصورة التي يتم نشرها والتي تتوافق مع الذات الزائفة، هي التي سيتم تقييمها على الشبكات الاجتماعية لأنها تلبي معايير الجمال أو الوسامة في المجتمع، وهو ما يدفع الى تنمية هذه الذات الزائفة، واعتمادها كشخصيتنا الأساسية لأنها أكثر شعبيه من «الذات الحقيقية» الهامشية للغاية، وهو ما يخل بالحدود ما بين الخيال والواقع، والذي يمكن ان يحفز العقول الأكثر هشاشة على تعديل أجسادهم الى الأبد لكي تصبح ذاتهم الزائفة تعمل بدوام كامل.
3 – إساءة استخدام الجراحة التجميلية:
تقدم منصات التواصل الاجتماعي دائما فلاتر جديدة، دائما ما تكون أكثر بعداً عن الصورة الواقعية، فمثلا على إحدى المنصات، إستخدم فلتر «Glamour Bold» أكثر من 100 مليون مرة، وقد أثار الجدل لأنه يعدل خصائص الوجه، ليقدم مظهراً يليق بعائلة «كارديشيان»، مبدأ هذا الفلتر بسيط، فهو يظهر الشكل الذي سيبدو عليه الوجه بمجرد مروره على يد جراح التجميل. يشير الإستطلاع الذي أجرته الأكاديمية الأمريكية للجراحة التجميلية، أنه في عام 2018 كان لدى 55% من الممارسين، مرضى يطلبون جراحة تجميلية وفقا لفلتر معين لتحسين مظهرهم في صور السلفي.
الأمور فعلاً أصبحت تخرج عن السيطرة، لكن الجميل أن هناك دول بدأت تتنبه لذلك قبل أن تصبح تلك الظاهرة ورطة اجتماعية، وتدخلت تشريعيا لحماية الناس من تضليل وسائل التواصل الاجتماعي، ففي المملكة المتحدة، قررت هيئة معايير الإعلان في فبراير 2021 حظر استخدام الفلاتر المضللة في سياق الترويج للمنتجات. وفي النرويج صدر قانون في يوليو 2022، لإلزام المؤثرين أو المعلنين بالإبلاغ عن أي استخدام للصور المعدلة، وذلك رغبه من الحكومة في التحكم بشكل أكبر في معايير الجمال الخيالية التي يتم الترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فالجمال نسبي، ومعاييره الحالية المدفوعة بالمنطق الاستهلاكي الربحي ليست مطلقة، فجمالنا في اختلافنا وتعايشنا. فكل النساء جميلات وكل الرجال وسيمين.